إدوار شيبان: أرى أجيالًا رائعة، مسؤوليّتنا تجديد أنفسنا لفهمها | حوار

إدوار شيبان | عدسة وائل عوض

 

* الثقافة والمعرفة الحرّة، وخلق الروح القياديّة، أولويّة لدينا.

* مركزيّة العربيّة والاعتزاز بها تجعلنا مجتمعًا له وجود اجتماعيّ وفكريّ.

* المعلّم المثقّف يستطيع أن يقدّم لطلّابه معرفة خارج المنهاج.

* في منهاج «المدنيّات» وامتحانات «البجروت» التركيز اليوم على «يهوديّة الدولة» و«قانون القوميّة»... هذا خطير.

* يقلقني وجود نسبة 50% من الشباب لا يحصلون على شهادة «بجروت».

* الجيل الجديد لا يريد أن يُقال له «عيب».

 

هذا الحوار المطوّل الّذي تُجريه فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة مع الأستاذ إدوارد شيبان، مدير «الكلّيّة الأرثوذكسيّة العربيّة» في حيفا، ضمن ملفّ «الساحل الفلسطينيّ»، أشبه بنافذة وسيعة نطلّ من خلالها على واحدة من أعرق مدارس أراضي 48، الّتي تأسّست بعد سنوات قليلة من نكبة الشعب الفلسطينيّ. وهي إطلالة ستعطينا منظورًا أشمل لرؤية العالم التربويّ بصفته جزءًا عضويًّا ومؤسّسًا في ثقافتنا الجمعيّة.

أمضى شيبان حتّى الآن ما يزيد على أربعة عقود من حياته في المدرسة، مدرّسًا ومديرًا وقارئًا ومتحيّزًا للغته وثقافته ومدافعًا عنهما. ابن الرامة تتلمذ على يد شكيب جهشان ونبيه القاسم ونزيه قسّيس وآخرين، كان لهم الأثر العميق في حبّه للغة العربيّة، الّتي ستتّخذ حصّة كبيرة في حوارنا هذا. كادت اللغة العربيّة تدفعه إلى خوض مهنة التدريس فيها، لكنّه اتّجه إلى البيولوجيا، فوضع ميله إلى اللغة عندها بأن ألّف كتبًا في مادّة البيولوجيا في سنوات السبعينات، في الوقت الّذي لم تتوفّر فيه كتب علميّة باللغة العربيّة. ويبدو أنّ هذا الشغف باللغة وآدابها وتاريخها وواقع أبنائها، سيُعُمَل على توريثه ووضعه في نفوس الأجيال الجديدة في مدرسته وعقولهم.

 

فُسْحَة: كيف ترى إلى الثقل، الّذي يضعه تاريخ الكلّيّة ومنافستها الدائمة، كواحدة من أفضل المدارس الفلسطينيّة في أراضي 48، على كاهل المدرسة؟

إدوار: لا بدّ لي من أن أعود قليلًا إلى التاريخ؛ فكما هو معروف حتّى عام 1948 لم يكن ثمّة مدارس ثانويّة إلّا في القدس، الوصول إلى مرحلة الثانويّة اعتُبر إنجازًا آنذاك. ثمّ جاءت الحاجة إلى تأسيس مدارس أخرى في الشمال في الخمسينات، فأُقيمت أربع مدارس في الناصرة والطيّبة والرامة و«الكلّيّة الأرثوذكسيّة العربيّة» في حيفا. تأسّست الكلّيّة عام 1952، أمّا التسمية فقد مُنحت صفة الأرثوذكسيّة؛ لأنّها تابعة لطائفة «الروم الأرثوذكس»، وهي ملك للطائفة. وصفة العربيّة لأنّ المؤسّسين، ثمّ الأجيال اللاحقة، وضعوا العربيّة في مقدّمة مكوّنات هويّة المدرسة. بعد فترة سيكون مرّ 79 عامًا على تأسيسها. أمّا أنا فبدأت التدريس فيها عام 1976؛ أي قضيت حتّى الآن 44 عامًا فيها. عاصرت الكثير من التحوّلات في الكلّيّة، ففي تلك السنوات تأسّست «الداخليّة» في المدرسة، وبدأ الطلّاب يجيئون من كلّ مكان من خارج حيفا. استمرّت «الداخليّة» مدّة عقدين، ثمّ توقّفت لأسباب اقتصاديّة. بالنسبة إلى سؤالك حول المسؤوليّة، فلا شكّ في أنّنا كنّا على مدار هذه العقود أمام تحدٍّ كبير؛ لأنّ المدرسة تُعْتَبَر في صدارة المدارس على الصعيد العربيّ، وربّما العالميّ، وهذا جزء لا يتجزّأ من هويّة المدرسة. المدير والمعلّم يدركون هذا المستوى، كأنّ ذلك موجود في جينات المدرسة؛ أن يتخرّج الطلّاب وهم على سعة كبيرة من المعرفة والثقافة. كنّا كذلك ولا نزال ونأمل في الاستمرار. إلى جانب هذا التميّز في التحصيل العلميّ، نعتبر أنفسنا كلّيّة عربيّة وطنيّة. نضع اهتمامنا، بالإضافة إلى التعليم، في الثقافة والثقافة السياسيّة عند الطالب، وأن يكون حرًّا في التعبير عن رأيه دون حسابات. نعمل أيضًا على تطوير القيادة الشابّة الّتي نلمس نتائجها بعد التخرّج. ربّما يرى الزائر أنّ مبانينا تبدو متواضعة من الخارج، فالإشكال يكمن في أنّ المدرسة ملك للطائفة، وهي طائفة صغيرة تعدادها يصل إلى نحو خمسة آلاف نسمة، ومن الصعب تحصيل التمويل والتبرّعات. هم مضطرّون إلى توفير قرش فوق قرش، من أجل تطوير المختبرات والوسائل التعليميّة في المدرسة، ثمّ إنّ مساحة المدرسة محدودة وتتّسع نحو 600 طالبة وطالب فقط. سعينا قبالة البلديّة أن نشتري قسيمة أرض تابعة لمدرسة يهوديّة مجاورة، لكن للبلديّة أسبابها وخلفيّاتها؛ لا أحد على استعداد بأن يقول إنّه باع جزءًا من مدرسة يهوديّة لصالح أخرى عربيّة. لو كنّا مدرسة يهوديّة لاختلف الأمر دون شكّ.

 

فُسْحَة: أتيت على ذكر التثقيف؛ ما الرؤية اللامنهجيّة الّتي تتّبعها المدرسة في مجال الثقافة؟ وكيف تترجمها بشكل عمليّ؟

إدوار: نحن نخصّص ميزانيّات للأنشطة اللامنهجيّة في المدرسة. ندعو محاضرين من مختلف المجالات الثقافيّة والسياسيّة، ندعو أعضاء كنيست وناشطين في مجالات اجتماعيّة. يلتقي الطلّاب بالمحاضرين في نقاشات مفتوحة في مواضيع عدّة، كالعنف ضدّ المرأة والمخدّرات وغيرهما. ونعمل على تنظيم ورش العمل، ونزور مسارح المدينة أو نجلب المسرحيّات إلى داخل المدرسة. وتُفْتَح أيضًا الحوارات مع الطلّاب في الصفوف، في حصص التربية وفي المناسبات المهمّة، مثل «هبّة أكتوبر» و«وعد بلفور» أو أيّ مناسبة أخرى. ينبغي للطالب أن يعرف ماهيّة هذه الأحداث وأبعادها على حاضرنا ومستقبلنا، وأن يمتلك حرّيّته في التعبير دون أن نفرض عليه رأيًا ما. ثمّة لغة حوار ونقاش، ومجلس طلّاب فاعل يتّخذ قراراته باستقلاليّة.

 

فُسْحَة: ولِمَ - في رأيك - لا يكون ذلك ضمن المنهاج الرسميّ؟

إدوار: المشكلة في المدارس الثانويّة وجود برامج مركزيّة توضع بهدف التحضير لامتحانات «البجروت». تظلّ مساحات قليلة جدًّا للمواضيع اللامنهجيّة. نحن نقيم الأنشطة اللامنهجيّة أحيانًا على حساب الدروس المركزيّة، لكن من الصعب أن تكون في صلب البرنامج نظرًا إلى وضعيّة مدارسنا. في نهاية الأمر، نحن نشجّع الطالب على التخرّج مع شهادة من أجل الاستمرار في التعليم الأكاديميّ، لكنّا نولي اهتمامًا للمشاريع اللامنهجيّة؛ نقيم أسبوعًا للغة العربيّة على سبيل المثال، نستضيف فيه أدباء وشعراء. نستضيف أيضًا فنّانين ومسرحيّين، نشارك في مسابقات «الخطيب الصغير» ومسابقات الكتابة الإبداعيّة. نحن نضع اللغة العربيّة في مكان مركزيّ وجوهريّ؛ فهي تُدَرَّس خلال الحصص، لكن تُسْتَخْدَم أيضًا بهدف التثقّف خارج المنهاج لتكون اللغة حيّة. تُتْرَك المساحة للمعلّمات والمعلّمين في إقرار الطريقة دون أن توضع لهم أيّ حدود. أولي اهتمامًا لكلّ مفردة أو إيحاء يرتبط باللغة العربيّة، فإن ظهر منّا أيّ إشارة تنمّ عن استخفاف ما، ينعكس ذلك على الطلّاب والهيئة التدريسيّة.

 

فُسْحَة: وهل تلاحظ تراجعًا في مكانتها في أوساط الطلّاب والأجيال الجديدة بعامّة، إذا ما نظرت إلى أربعة عقود من التجربة؟

إدوار: أستطيع أن أتحدّث بشكل خاصّ عن الكلّيّة الأرثوذكسيّة؛ فاللغة العربيّة جزء من هويّتها. نهتمّ بأن يكون الجانب العمليّ من التعليم باللغة العربيّة، وبأن تكون اللغة المستخدمة، في كلّ المواضيع، عربيّة سليمة ومُتْقَنَة. جميع المعلّمين يمرّرون مواضيعهم باللغة العربيّة فقط. في سنوات مضت، لم تتوفّر مراجع تعليميّة علميّة باللغة العربيّة. أذكر أنّني حين شرعت في تدريس موضوع البيولوجيا لم تتوفّر موادّ باللغة العربيّة، فبدأت عام 1977 بكتابة الموادّ بالعربيّة يدويًّا؛ فألّفت أوّل إضبارة لحقتها كتب في تعليم البيولوجيا بالعربيّة. مرّة من المرّات زارنا مفتّش يهوديّ، وحاول أن يقنعني بأن أدرّس طلّابي بالعبريّة حتّى لا يواجهوا المتاعب عند دراستهم الأكاديميّة، قلت له إنّ هذا الشيء الوحيد الّذي تبقّى لنا، وتريد أن تنتزعه منّا؟ لاحقًا، انضمّ جميع المدرّسين إلى هذا الجهد، فجلسوا وكتبوا كتبًا باللغة العربيّة في مواضيع تعليميّة عدّة. أنا أدّعي أنّهم ذوو قدرة عالية على الكتابة والتعبير، سواء في الجامعات المحلّيّة أو الأجنبيّة. صحيح أنّنا شهدنا تحوّلات جمّة في الشعور القوميّ، الّذي بلغ ذروته في سنوات السبعينات والثمانينات، ثمّ لاحظنا هبوطًا عامًّا وتغييرات عامّة، انهارت فيها الأنظمة العربيّة الّتي لم تستطع تحقيق أيّ طموح سياسيّ لشعوبها، لكنّي ما زلت أؤمن بأنّ اللغة جزء ومركّب مركزيّ في هويّتنا، ولا يمكن الاستغناء عنه. ذلك على الرغم من أنّنا نعيش أزمة حضور ثلاث لغات في مناهجنا، هي العربيّة والعبريّة والإنجليزيّة، وليس في استطاعتنا التنازل عن واحدة منها في سبيل حياتنا الأكاديميّة والمهنيّة. أمّا العربيّة فبدون معرفتها والكتابة فيها وقراءتها، سنغدو مجتمعًا بدون وجود فكريّ أو اجتماعيّ. تاريخ الكلّيّة يشهد بوجود أساتذة درّسوا اللغة العربيّة، هم أدباء وأعلام في الأدب الفلسطينيّ مثل الأستاذ حنّا أبو حنّا، مديرًا ومدرّسًا، وبروفيسور سليمان جبران، ومحمّد علي طه، وفتحي فوراني، وغيرهم، ممّن أحدثوا تأثيرًا في مستوى الطلّاب والمعلّمين، ومن بالغ الأهمّيّة أن نكمل مسيرتهم حتّى بعد تقاعدهم.

 

فُسْحَة: لكن كلّ ذلك على أهمّيّته يقع خارج المنهاج؛ كيف ترون إلى المناهج الإسرائيليّة المعمول بها، الّتي لا تستطيعون السيطرة عليها، في المواضيع الّتي تخصّ لغتنا وثقافتنا أيضًا، كالتاريخ وغيرها؟

إدوار: أنا لست خبيرًا، لكن بإمكاني التحدّث عن المرحلة الثانويّة. في اعتقادي، لقد حصل تحسّن في السنوات الأخيرة، فإن أخذنا الأدب العربيّ مثالًا، فقد ارتكز المنهاج في السابق على القديم والجاهليّ والأمويّ والعبّاسيّ منه. لم يوفّر المنهاج سابقًا مراجع في الأدب الحديث تقريبًا. بالنسبة إلى الطالب، فقد واجه صعوبةً ومللًا في المفردات والمواضيع المطروحة. لكن اليوم نلاحظ وجود الأدب الحديث القريب والأكثر ألفة، نقرأ قصّة قصيرة لمحمّد نفّاع، وندعوه إلى المدرسة حيث يقترب من الطالب مثلًا، مع العلم أنّ التعاطي مع الأدباء والشعراء الفلسطينيّين في المدارس في السابق كان ممنوعًا. من جهة أخرى، لا تزال سيطرة على كلّ ما يخصّ العربيّة والأدب الفلسطينيّ، وما المسموح تدريسه وما الممنوع، لكن يظلّ دور المعلّم جوهريًّا في اللغة العربيّة وفي مواضيع غيرها؛ فالمعلّم المثقّف يستطيع أن يقدّم لطلّابه معرفة خارج المنهاج، نحن نعتبر ذلك ممكنًا، بل لزامًا عليه؛ إذ يمرّر المعلّم المنهاج ثمّ يضيف موادّ خارجيّة، كشعر محمود درويش في مادّة الأدب على سبيل المثال؛ ولذلك، فإنّ دور المعلّم يعمل على توسيع الآفاق وتقديم ما هو أبعد من المنهاج. من جهتها، تخصّص المدرسة حصصًا إضافيّة؛ فإن كان المنهاج يكتفي بثلاث حصص، فسنضيف رابعة، ونفتح المجال أمام مَنْ يريد التقدّم بخمس وحدات للبجروت. نحو 25% من الطلّاب يتقدّمون بخمس وحدات، وهذا يتطلّب منهم اجتهادًا ومعرفة أكبر.

 

فُسْحَة: وماذا عن موضوع القراءة خارج نصوص المنهاج؟

إدوار: القراءة مدرجة ضمن البرنامج اللامنهجيّ؛ فمطالعة الكتب ونقاشها مفروضان على الطلّاب. أودّ أن أذكر أيضًا مسابقات اللغة العربيّة الّتي ننظّمها، تتطلّب القراءة وفهم المقروء والكتابة، يُقَيَّم الطالب أمام لجنة تحكيم، وتُقَدَّم الجوائز المكوّنة طبعًا من كتب للمطالعة. هذه المسابقات تخلق روح التنافس ومحبّة اللغة العربيّة والأدب، ولا سيّما الفلسطينيّ. أتفاجأ أحيانًا بأنّ الطلّاب يبحثون بأنفسهم عن أدباء شباب قريبين من عوالمهم.

 

فُسْحَة: كنت ألاحظ حقيقةً إقبال فئة من طلّاب المدرسة على شراء الكتب في متجر «فتّوش»، حين كنت أعمل هناك...

إدوار: أنا أكيد من ذلك. ومن جهة أخرى ثمّة طلّاب يقرؤون بالإنجليزيّة، وآخرون لا يقرؤون ألبتّة. لكنّ المهمّ أنّ المدرسة تتطلّع بنظرة إيجابيّة نحو المسألة. إنّ توجّه المدرسة إلى تقدير اللغة، كما أسلفت، سينعكس على الطلّاب. أذكر لك حادثة مؤسفة؛ دُعينا في الماضي إلى مدرسة تابعة للطائفة الأرثوذكسيّة في عمّان، فلبّينا الدعوة. سألت نفسي عن الهديّة الّتي عليّ أخذها معي، قلت سأهدي المدرسة كتب التدريس العربيّة لموضوع البيولوجيا الّتي كنت ألّفتها. وصلنا وقمنا بالزيارة، وتعرّفنا على أستاذ البيولوجيا الّذي قال إنّهم لا يستخدمون اللغة العربيّة في التدريس، وإنّ جميع المواضيع تُدَرَّس بالإنجليزيّة من كتب صادرة في بريطانيا. شكّل ذلك بالنسبة إليّ صدمة لأنّ الحديث يدور في عاصمة من عواصمنا العربيّة. يدرّسون العربيّة كأنّهم خجلون، كأنّهم مجبَرون على تدريسها. إن كان الوضع كذلك في الدول العربيّة فإنّه محبِط، ونحن على حال أحسن.

 

فُسْحَة: وماذا عن موقفكم من المنهج المقرّر لمواضيع أخرى عدا العربيّة؟

إدوار: أنا أرى الخطورة الحقيقيّة في مواضيع مثل التاريخ والمدنيّات. إن جئنا على الأخيرة، فهي مادّة إجباريّة وليس ثمّة حرّيّة في اختيارها. جرى تغيير حادّ في موضوع المدنيّات في العقود المنصرمة، خاصّة العقد الأخير منها. قبل سنوات فصلوا مفتّش المدنيّات؛ لأنّ مواقفه السياسيّة تختلف عن مواقف اليمين المتطرّف. في السابق، تضمّن منهاج المدنيّات مواضيع نظريّة كالديمقراطيّة وأنظمة الحكم والتعدّديّة، أمّا اليوم، فنلاحظ تغييرًا وعملًا مثابرًا ومقصودًا في التركيز على مسألة «يهوديّة الدولة» و«قانون القوميّة» ومبادئ أخرى ضدّ مبادئنا. بل يعملون على تركيز امتحانات «البجروت» في هذه المواضيع؛ وهو ما شكّل تحدّيًا كبيرًا بالنسبة إلى معلّمي المدنيّات. أنا أؤمن بأنّ المعلّمين الّذين يمتلكون وعيًا وثقافةً كافية، بإمكانهم أن يفتحوا النقاش ومجال التعبير، وألّا يكتفوا بتدريس المادّة على نحو تقنيّ. الخوف موجود ولا يمكن تجاهله. أخشى أنّنا مع هذه المضامين، وشيئًا فشيئًا، سنكون أمام تفكير مختلف عند الشباب، يجعلهم يظنّون أنّهم ضيوف على هذه البلاد لا أصحابها الأصليّون. هذا غسيل دماغ مستمرّ، يُعْمَل به في مدارسنا وفي المدارس اليهوديّة أيضًا. القضيّة الأخرى هي قضيّة التاريخ الغريب، هل تذكرين ماذا درستِ، وفي أيّ نقطة انتهى التاريخ؟

 

فُسْحَة: أذكر تاريخ أوروبّا وتاريخ اليهود وصدر الإسلام...

إدوار: وتاريخ الشرق الأوسط، أين انتهى؟ انتهى عام 1947 عند «قرار التقسيم»، ثمّ لا وجود لعام 1948، بينما يصل التاريخ في المدارس اليهوديّة إلى اتّفاقيّة السلام مع الفلسطينيّين. توضع القضيّة الفلسطينيّة في المنهاج لكنّها توضع في آخره، ودائمًا ما لا يستطيع الطلّاب أن يلتحقوا بالمادّة؛ لأنّهم يُمْتَحَنون بمادّة كبيرة في التاريخ، ثمّ إنّ تدريس هذه المادّة أمر اختياريّ. ما نفعله نحن أنّنا نقلب الزمن، نبدأ من القضيّة الفلسطينيّة ثمّ نعود إلى الوراء. تلاحظين أيضًا، في تاريخ مصر، التركيز على فترة محمّد علي وتقليص فترة عبد الناصر، الآن حذفوها تمامًا من المنهاج. ما ينكشف عليه الطالب مقصود تمامًا وليس اعتباطيًّا. عندما كان جدعون ساعَر وزيرًا للتربية والتعليم، وعرف أنّ ثمّة مدارس عربيّة تكنولوجيّة، كمدرستَي «عامال» و«أورط»، معفيّة من وحدة من وحدتَي تاريخ، وقد تستغني عن وحدة تاريخ الشعب اليهوديّ، أصدر قرارًا بإجبار هذه المدارس على تدريسها، حتّى لا تجرؤ أيّ مدرسة عربيّة على تجاهلها. ثمّة تحكّم واضح في المناهج وكيفيّة تدريسها متجسّد في تضمينها في امتحانات «البجروت»؛ الأمر الّذي لا يعطي فسحة للمدارس للعمل بحرّيّة واختيار المنهاج.

 

فُسْحَة: حدّثني عن رؤيتكم وعملكم فيما يخصّ تهيئة الطالب للحياة بعد المدرسة. كيف تحمونه من التنميط الحاصل في المجتمع حيال المهن وسوق العمل؟

إدوار: لدينا «مشروع التوجيه الدراسيّ» للصفوف الثاني عشر، من خلاله، وبمرافقة المستشارات والمسؤولات عن الأنشطة اللامنهجيّة، يُطَوَّر الحوار مع الطالب من أجل الكشف عن ميوله. المشروع مصحوب بأنشطة ومحاضرات ولقاءات مع شخصيّات من مجالات مهنيّة مختلفة. نصحب الطلّاب إلى الأيّام المفتوحة الّتي تُقام في الكلّيّات والمؤسّسات الأكاديميّة المختلفة. لاحقًا، نختتم المشروع بيوم ندعو إليه خرّيجينا الّذين اتّخذوا مسارات أكاديميّة ومهنيّة مختلفة، حتّى يلتقوا بالطلّاب ويتحدّثوا إليهم. أعتقد أنّ «مشروع التوجيه الدراسيّ» متكامل بصورته هذه. من جهة أخرى، على الطالب أن يدرك الآفاق المنتظرة في سوق العمل، ولا سيّما الآن في أزمة مثل جائحة كورونا، حين فقدَ كثير من الفنّانين عملهم، فقد وُضِعوا جانبًا في هذه الدولة، لكنّما في دول أخرى محترمة، يُمْنَح الفنّانون التقدير بأن يُدْعَموا اقتصاديًّا حتّى يضمنوا وجودهم. أنا أقدّر حبّ الفنّان لفنّه، لكن في أزمات كهذه تصبح الأمور بالغة التحدّي. المهمّ أن يتّخذ الطالب مجالًا يحبّه ويرغب فيه، فلا شيء أكثر كارثيّة من أن يذهب إلى عمل لا يحبّه، وقد يدمج، بالطبع، بين هواياته ومهنته.

 

فُسْحَة: بودّي لو أسألك حول موضوع التربية الجنسيّة في المدرسة، كيف يستوي تشجيعكم لحرّيّة التعبير عند الطالب مع التحفّظ المجتمعيّ تجاه هذا الموضوع؟

إدوار: لا شكّ في أنّنا نتعاطى مع موضوع حسّاس. دعينا نقول إنّ برامجنا في هذا الإطار منضبطة، ثمّة برنامج للتربية الجنسيّة يتضمّن لقاءات ومحاضرات، حتّى في موضوع التعدّديّة الجنسيّة، لكن ليس بالإمكان رفع شعار حادّ لوجود معارضة أو تحفّظ عند بعض الطلّاب والأهالي. من جانب آخر، لا يمكن أحدًا أن يقمع أيّ صوت خلال نقاش. الحوار مفتوح والصدام في هذه القضايا أمر طبيعيّ. نحن نرى بعين الاعتبار جميع الشرائح، ونمشي بين النقاط إن جاز التعبير؛ من أجل ألّا يشعر أحد بأنّه - أو بأنّ تفكيره - مهدَّد. أنا أنظر إلى أنّ التباين في الآراء أمر إيجابيّ، فثمّة تعدّديّة في خلفيّات الطلّاب، وهذا شيء جوهريّ في هويّة المدرسة. لدينا طلّاب من نحو ثلاثين بلدة، منهم الليبراليّون ومنهم المحافظون، لكنّا نعيش بوئام وسلام معًا. نتحدّث بحرّيّة لكن في الأطر المناسبة، ومع الكوابح المناسبة. أريد أن أُشير إلى نقطة مهمّة، وهي أنّ غالبيّة الطلّاب من الإناث، اللاتي يشكّلن نسبة 57%. لسنا نميّز أو نفضّل جنسًا على آخر، لكنّها ظاهرة مستمرّة. من بين الطلّاب الممتحنين عندنا تحصد البنات نجاحات أكبر، كذلك داخل المدرسة بعد القبول. أعتبر ذلك أمرًا رائعًا يدلّ على ازدياد في نسبة النساء الأكاديميّات والمتعلّمات، وهذا دافع إلى تحسين المجتمع ككلّ. هذه الظاهرة مرئيّة في الجامعات أيضًا؛ ففي «معهد التخنيون» تشكّل الشابّات نسبة 60%. نحن نشهد تغييرًا كبيرًا، أترك تفسيره لغيري. في ضوئه، تشعر البنت بأنّها أكثريّة، ثمّ إنّ رئيسة مجلس الطلّاب على مدار ثلاث سنوات كانت بنتًا، وهذا ما لم نكن لنلاحظه في السابق.

 

فُسْحَة: قد نلاحظ أنّ الأجيال الجديدة تمارس علاقاتها الاجتماعيّة من خلف الشاشات، ما دور المدرسة في تعزيز علاقة الطلّاب بالمجتمع وتشجيع التطوّع؟  

إدوار: نقوم بمشاريع تطوّعيّة ممتازة داخل حيفا وخارجها؛ في مؤسّسات كدور يتامى ودور مسنّين، وفي المدرسة نفسها حيث يقدّم الطلّاب المساعدة لطلّاب في صفوف أدنى. نحن ندفع في اتّجاه التطوّع الّذي يجيء مع شغف وحبّ لا من أجل تسجيل الساعات. في الصفوف العاشرة، يتلقّون دورة في «الإسعاف الأوّليّ»، وهذا يمكّنهم كي يستمرّوا في التطوّع في المستشفيات إن رغبوا في ذلك. كان لدينا علاقات بمؤسّسات مثل «مسرح الميدان»، قبل أن تحدث التدخّلات السياسيّة الّتي حدثت ضدّ المسرح. كان لدينا محاولات لمشاريع مشتركة مع مدارس يهوديّة مثل مدرسة «الريئالي»، لكنّها فشلت للأسف بسبب عنصريّة الأهالي، الّذين لم يتقبّلوا أن يعبّر الطلّاب العرب عن آرائهم.

 

فُسْحَة: كيف من الممكن - في رأيك - أن تشجّع المدرسة على التطوّع، وأن تحمي طلّابها من الخدمة المدنيّة؟

إدوار: كان ثمّة بعض التخوّفات حين أُدخل «مشروع التداخل الاجتماعيّ» في المدارس مشروعًا إجباريًّا من أجل الحصول على شهادة «البجروت»، لكن تأكّدنا أنّه لا يرتبط بالخدمة المدنيّة. العمل التطوّعيّ الّذي يقوم به طلّابنا يحدث باختيارهم، ولخدمة المجتمع العربيّ في حيفا وخارجها، ولخدمة طلّاب المدرسة. نحن نشجّع التطوّع كقيمة عليا وضروريّة. أمّا بالنسبة إلى الخدمة المدنيّة، فإنّ نسبة قليلة لا تُذْكَر من خرّيجينا يلجؤون إليها. لقد قيل لنا، في إطار توزيع جوائز على المدارس من قِبَل «وزارة المعارف»، بأنّ أسهمنا تنخفض في الحصول على جائزة؛ لأنّ خرّيجينا لا يتقدّمون للخدمة المدنيّة. وعلى ذاك، فإنّ التطوّع الّذي يقوم به طلّابنا هو في أطر متّفق عليها ودون أيّ تدخّل خارجيّ. أطلقنا قبل فترة حملة «اطرق الباب» لدعم مرضى السرطان، واكتشفنا قبل أيّام أنّنا استطعنا تجميع أكبر مبلغ من المال من بين جميع المدارس.

 

فُسْحَة: كيف ترى إلى الأجيال الجديدة بعامّة؟ كيف ترى إلى استهلاكها للمضامين في وسائل التواصل الاجتماعيّ، كأنّها عوالم توازي العالم الحقيقيّ والمدرسة؟

إدوار: أنا أرى أجيالًا رائعة، ذات طاقات إبداعيّة منفتحة وذات نفوس حرّة؛ فالإبداع لا يستقيم دون حرّيّة. وإن كانت تحرّكنا في الماضي ضوابط اجتماعيّة، فإنّ الجيل الجديد لا يريد أن يُقال له «عيب»، يريد أن يجرّب أيّ شيء بنفسه. وأنا أعتقد أنّ على الإنسان أن يشعر بحرّيّة في فعل أيّ شيء، إن كان هذا لا يجلب الضرر إلى الفاعل أو الآخرين. ليس لديّ شكّ في أنّ الأجيال الجديدة أكثر انفتاحًا وذكاء منّا. ما تقولينه صحيح وينطبق على الشباب في كلّ مكان. العالم انفتح في العقد الأخير، نستطيع أن نكون وأن نتواصل مع كلّ مكان في العالم. الأمر الّذي يقلقني فعلًا وجود نسبة 50% من الشباب لا يحصلون على شهادة «بجروت». يقلقني العنف الموجود في مجتمعنا، كأنّنا تعوّدنا على وجوده اليوميّ. أن نعيش وسط مئة حالة قتلٍ في العام أمر غير طبيعيّ. في الماضي كنّا نادرًا ما نسمع عن حوادث قتل. من ناحية أخرى، نحن أمام نماذج من شباب وشابّات على مستويات فنّيّة وأكاديميّة ومهنيّة عالية. على الرغم من الفوضى الّتي نعيشها إلّا أنّنا نعيش تغييرًا اجتماعيًّا، وأنا أنظر إليه بإيجابيّة. كلّ جيل يختلف عن سابقه. على عاتقنا، نحن المعلّمين، مسؤوليّة أن نفهم الجيل الجديد، وأن نعمل على تفكيرنا، وإن لم نفلح في فهمه، أن نجالس أبناءنا ونفهم كيف يروننا، فأحيانًا نحن ننسى أنفسنا، تتقدّم بنا السنّ، وقد يرانا أبناؤنا من عصر حجريّ. نحن نعيش في عالم يتميّز بالسيولة والتغيّر. عشنا سابقًا ضمن قوانين اجتماعيّة لم نكن نجرؤ على التمرّد عليها. اليوم، تبدو الحياة أكثر مرونةً، وفي ذلك وجه إيجابيّ وآخر سلبيّ. لكنّي أرى الإيجابيّ، أرى الحرّيّة في التفكير والإبداع في العمل.

 

 

تُنْشَر هذه المادّة ضمن ملفّ «الساحل الفلسطينيّ»، بالتعاون بين جمعيّة الثقافة العربيّة وفُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة ورمّان الثقافيّة، في إطار «مهرجان المدينة للثقافة والفنون» 2020.

 

 

 

أسماء عزايزة

 

شاعرة وصحافيّة. حاصلة على البكالوريوس في الصحافة والأدب الإنجليزيّ من جامعة حيفا. لها ثلاث مجموعات شعريّة؛ "ليوا" (2010)، و"كما ولدتني اللدّيّة" (2015)، و"لا تصدّقوني إن حدّثتكم عن الحرب" (2019). تشارك في أنطولوجيّات ومهرجانات شعريّة في العالم. تُرجمت قصائدها إلى لغات عدّة. عملت لسنوات في الصحافة المكتوبة وفي التلفزة. تدير حاليًّا "فناء الشعر"، وهي مبادرة مستقلّة أسّستها عام 2017. تكتب في عدد من المنابر العربيّة.